فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بل نحن قانعون بما أدبنا به آباؤنا، وذلك أن بعض أهل الكتاب أخبروهم أن صفة هذا النبي عندهم في كتبهم، فأغضبهم ذلك فقالوه: {ولو} أي والحال أنك {ترى} أي يوجد منك رؤية لحالهم {إذ} هم- هكذا كان الأصل، ولكن أظهر الوصف تعميمًا وتعليقًا للحكم به فقال: {الظالمون} أي الذين يضعون الأشياء في غير محالها فيصدقون آباءهم لإحسان يسير مكدر بغير دليل، ولا يصدقون ربهم الذي لا نعمة عندهم ولا عند آبائهم إلا منه، وقد أقام لهم أدلة العقل بما ضرب لهم من الأمثال في الآفاق وفي أنفسهم، والنقل بهذا القرآن المدلول على صدقه بعد إظهار المعجزات المحسوسات بعجزهم عنه، فكأنهم سمعوه من الله المنعم الحق {موقوفون} أي بعد البعث بما يوقفهم من قدرته بأيدي جنوده أو بغيرها بأيسر أمر منه سبحانه قهرًا لهم وكرهًا منهم: {عند ربهم} أي الذي أحسن إليهم فطال إحسانه فكفروا كلما أحسن به إليهم {يرجع بعضهم} أي على وجه الخصام عداوة.
وكان سببها مواددتهم في الدنيا بطاعة بعضهم لبعض في معاصي الله، قال القشيري: ومن عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لاعتبروا، ولو اعتبروا لتابوا وتوافقوا، ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا {إلى بعض القول} أي بالملاومة والمباكتة والمخاصمة، لرأيت أمرًا فظيعًا منكرًا هائلًا شنيعًا مقلقًا وجيعًا يسرك منظره، ويعجبك منهم أثره ومخبره، من ذلهم وتحاورهم وتخاذلهم حيث لا ينفعهم شيء من ذلك.
ولما كان هذا مجملًا، فسره بقوله على سبيل الاستئناف: {يقول الذين استضعفوا} أي وقع استضعافهم ممن هو فوقهم في الدنيا وهم الأتباع في تلك الحالة على سبيل اللوم والتأنيب {للذين استكبروا} أي أوجدوا الكبر وطلبوه بما وجدوا من أسبابه التي أدت إلى استضعافهم للأولين وهم الرءوس المتبوعون: {لولا أنتم} أي مما وجد من استتباعكم لنا على الكفر وغيره من أموركم {لكنا مؤمنين} أي عريقين في الإيمان لأنه لم يكن عندنا كبر من أنفسنا يحملنا على العناد للرسل.
ولما لم يتضمن كلامهم سوى قضية واحدة، ذكر الجواب بقوله تعالى: {قال الذين استكبروا} على طريق الاستئناف {للذين استضعفوا} ردًا عليهم وإنكارًا لقولهم أنهم هم الذين صدوهم: {أنحن} خاصة {صددناكم} أي منعناكم وصرفناكم {عن الهدى} ولما كانوا لا يؤاخذون بإهمال دليل العقل قبل إتيان الرسل، أشاروا إلى ذلك بقولهم: {بعد إذ جاءكم} أي على ألسنة الرسل.
ولما كان المعنى: إنا لم نفعل ذلك، حسن أن يقال: إنهم هم الذين ضلوا بأنفسهم لا بإضلالهم، فقالوا: {بل كنتم} أي جبلة وخلقًا {مجرمين} أي عريقين في قطع ما ينبغي وصله بعد إتيان الهدى مختارين لذلك كما كنتم قبله أتباعًا لنا ما ردتم ولا ردنا، ولما تضمن قولهم أمرين: ادعاء عراقتهم في الإجرام، وإنكار كونهم سببًا فيه، أشار إلى ردهم للثاني بالعاطف على غير معطوف عليه إعلامًا بأن التقدير: قال الذين استضعفوا: كذبتم فيما ادعيتم من عراقتنا في الإجرام: {وقال الذين استضعفوا} عطفًا على هذا المقدر {للذين استكبروا} ردًّا لإنكارهم صدهم: {بل} الصاد لنا {مكرُ الليل والنهار} أي الواقع فيهما من مكركم بنا، أو استعير إسناد المكر إليهما لطول السلامة فيهما، وذلك للاتساع في الظرف في إجرائه مجرى المفعول به {إذ تأمروننا} على الاستمرار {أن نكفر بالله} أي الملك الأعظم بالاستمرار على ما كنا عليه قبل إتيان الرسل {ونجعل له أندادًا} أي أمثالًا نعبدهم من دونه {وأسروا} أي يرجعون والحال أن الفريقين أسروا {والندامة لما} أي حين {رأوا العذاب} لأنهم بينما هم في تلك المقاولة وهم يظنون أنها تغني عنهم شيئًا وإذا بهم قد بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون فأبهتهم فلم يقدروا لفوات المقاصد وخسران النفوس أن نسبوا بكلمة، ولأجل أن العذاب عم الشريف منهم والوضيع.
قال تعالى: {وجعلنا الأغلال} أي الجوامع التي تغل اليد إلى العنق {في أعناق الذين كفروا} فأظهر موضع الإضمار تصريحًا بالمقصود وتنبيهًا على الوصف الذي أوجب لهم ذلك.
ولما كانت أعمالهم لقبحها ينبغي البراءة منها، فكانت بملازمتهم لها كأنها قد قهرتهم على ملازمتها وتقلدها طوق الحمامة فهم يعاندون الحق من غير التفات إلى دليل قال منبهًا على ذلك جوابًا لمن كأنه قال: لم خصت أعناقهم وأيديهم بهذا العذاب؟: {هل يجزون} أي بهذه الأغلال {إلا ما كانوا} أي كونًا هم عريقون فيه {يعملون} أي على سبيل التجديد والاستمرار مما يدعون أنهم بنوه على العلم، وذلك الجزاء- والله أعلم- هو ما يوجب قهرهم وإذلالهم وإخزاءهم وإنكاءهم وإيلامهم كما كانوا يفعلون مع المؤمنين ويتمنون لهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ}.
لما بين الأمور الثلاثة من التوحيد والرسالة والحشر وكانوا بالكل كافرين بين كفرهم العام بقوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان} وذلك لأن القرآن مشتمل على الكل وقوله: {وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ} المشهور أنه التوراة والإنجيل، وعلى هذا فالذين كفروا المراد منهم المشركون المنكرون للنبوات والحشر، ويحتمل أن يقال إن المعنى هو أنا لا نؤمن بالقرآن أنه من الله ولا بالذي بين يديه أي ولا بما فيه من الإخبارات والمسائل والآيات والدلائل، وعلى هذا فالذين كفروا المراد منهم العموم، لأن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن أنه من الله ولا بالذي فيه من الرسالة وتفاصيل الحشر، فإن قيل: أليس هم مؤمنون بالوحدانية والحشر، فنقول إذا لم يصدق واحد ما في الكتاب من الأمور المختصة به يقال فيه إنه لم يؤمن بشيء منه وإن آمن ببعض ما فيه لكونه في غيره فيكون إيمانه لا بما فيه.
مثاله: أن من يكذب رجلًا فيما يقوله فإذا أخبره بأن النار حارة لا يكذبه فيه ولكن لا يقال إنه صدقه لأنه إنما صدق نفسه، فإنه كان عالمًا به من قبل وعلى هذا فقوله بين يديه أي الذي هو مشتمل عليه من حيث إنه وارد فيه.
وقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}.
لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم لن نؤمن فإنه لتأييد النفي وعد نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول كما يكون عليه حال جماعة أخطؤا في أمر يقول بعضهم كان ذلك بسببك ويرد عليه الآخر مثل ذلك، وجواب لو محذوف، تقديره: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون لرأيت عجبًا، ثم بدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ فقال: {يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لا لعدم المقتضى لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا ما جاءنا رسول، ولا أن يقولوا قصر الرسول، وهذا إشارة إلى إتيان الرسول بما عليه لأن الرسول لو أهمل شيئًا لما كانوا يؤمنون ولولا المستكبرون لآمنوا.
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)}.
ردًا لما قالوا إن كفرنا كان لمانع {أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} يعني المانع ينبغي أن يكون راجحًا على المقتضى حتى يعمل عمله، والذي جاء به هو الهدى، والذي صدر من المستكبرين لم يكن شيئًا يوجب الامتناع من قبول ما جاء به فلم يصح تعليلكم بالمانع، ثم بين أن كفرهم كان إجرامًا من حيث إن المعذور لا يكون معذورًا إلا لعدم المقتضى أو لقيام المانع ولم يوجد شيء منهما.
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا}.
لما ذكر المستكبرون أنا ما صددناكم وما صدر منا ما يصلح مانعًا وصارفًا اعترف المستضعفون به وقالوا: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} منعنا، ثم قالوا لهم إنكم وإن كنتم ما أتيتم بالصارف القطعي والمانع القوي ولكن انضم أمركم إيانا بالكفر إلى طول الأمد والامتداد في المدد فكفرنا فكان قولكم جزء السبب، ويحتمل وجهًا آخر وهو أن يكون المراد بل مكركم بالليل والنهار فحذف المضاف إليه.
وقوله: {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بالله} أي ننكره {وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} هذا يبين أن المشرك بالله مع أنه في الصورة مثبت لكنه في الحقيقة منكر لوجود الله لأن من يساويه المخلوق المنحوت لا يكون إلهًا، وقوله في الأول: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} يقول الذين استضعفوا بلفظ المستقبل، وقوله في الآيتين المتأخرتين {وَقَالَ الذي استكبروا} {وَقَالَ الذي استضعفوا} بصيغة الماضي مع أن السؤال والتراجع في القول لم يقع إشارة إلى أن ذلك لابد وأن يقع، فإن الأمر الواجب الوقوع يوجد كأنه وقع، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} [الزمر: 30].
ثم قال تعالى: {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
معناه أنهم يتراجعون القول في الأول، ثم إذا جاءهم العذاب الشاغل يسرون ذلك التراجع الدال على الندامة، وقيل معنى الإسرار الإظهار أي أظهروا الندامة، ويحتمل أن يقال بأنهم لما تراجعوا في القول رجعوا إلى الله بقولهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صالحا} [السجدة: 12] ثم أجيبوا وأخبروا بأن لا مرد لكم فأسروا ذلك القول، وقوله: {وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} إشارة إلى كيفية العذاب وإلى أن مجرد الرؤية ليس كافيًا بل لما رأوا العذاب قطعوا بأنهم واقعون فيه فتركوا الندم ووقعوا فيه فجعل الأغلال في أعناقهم، وقوله: {يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إشارة إلى أن ذلك حقهم عدلًا. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}.
حكيت في هذه الآية مقالة قالها بعض قريش وهي أنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بما بين يديه من التوراة والإنجيل والزبور فكأنهم كذبوا بجميع كتب الله وإنما فعلوا هذا لما وقع الاحتجاج عليهم بما في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقالت فرقة: {الذي بين يديه} هي الساعة والقيامة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا خطأ قائله لم يفهم أمر بين اليد في اللغة وأنه المتقدم في الزمان وقد بيناه فيما تقدم، ثم أخبر الله تعالى نبيه عن حالة الظالمين في صيغة التعجيب من حالهم، وجواب {لو} محذوف، وقوله: {يرجع بعضهم إلى بعض القول} أي يرد، أي يتحاورون ويتجادلون، ثم فسر ذلك الجدل بأن الأتباع والضعفاء من الكفرة يقولون للكفار وللرءوس على جهة التذنيب والتوبيخ ورد اللائمة عليهم {لولا أنتم} لآمنا نحن واهتدينا، أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر، فقال لهم الرؤساء على جهة التقرير والتكذيب {أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين} أي دخلتم في الكفر ببصائركم، وأجرمتم بنظر منكم، ودعوتنا لم تكن ضربة لازب عليكم لأنا دعوناكم بغير حجة ولا برهان.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا كله يتضمنه اللفظ.
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ}.
هذه مراجعة من الأتباع للرؤساء حين قالو لهم: إنما كفرتم ببصائر أنفسكم قال المستضعفون بل كفرنا بمكركم بنا بالليل والنهار وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما ولتدل هذه الإضافة على الدءوب والدوام، وهذه الإضافة كما قالوا ليل نائم ونهار صائم، وأنشد سيبويه فنام ليلي وتجلى همي، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ قتادة بن دعامة {بل مكرٌ الليلَ والنهارَ} بتنوين {مكرٌ} ونصب {الليلَ والنهارَ} على الظرف، وقرأ سعيد بن جبير {بل مكَرّ} بفتح الكاف وشد الراء من كر يكر وبالإضافة إلى {الليل والنهار} وذكر عن يحيى بن يعمر وكأن معنى هذه الآية الإحالة على طول الأمل والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله، والند المثيل والشبيه، والضمير في قوله: {أسروا} عام جميع ما تقدم ذكره من المستضعفين والمستكبرين، {أسروا} معناه اعتقدوها في نفوسهم، ومعتقدات النفس كلها سر لا يعقل غير ذلك، وإنما يظهر ما يصدر عنها من كلام أو قرينة، وقال بعض الناس {أسروا} معناه أظهروا وهي من الأضداد.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا كلام من لم يعتبر المعنى أما نفس الندامة فلا تكون إلا مستسرة ضرورة، وأما الظاهر عنها فغيرها ولم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد، وقوله تعالى: {لما رأوا العذاب} أي وافوه وتيقنوا حصولهم فيه وباقي الآية بين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} يريد كفار قريش.
{لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ} قال سعيد عن قتادة: {وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقيل من الآخرة.
وقال ابن جُريج: قائل ذلك أبو جهل بن هشام.
وقيل: إن أهل الكتاب قالوا للمشركين صفة محمد في كتابنا فسلوه، فلما سألوه فوافق ما قال أهل الكتاب قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي أنزل قبله من التوراة والإنجيل بل نكفر بالجميع؛ وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب ويحتجون بقولهم، فظهر بهذا تناقضهم وقلة علمهم.
ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن حالهم فيما لهم فقال: {وَلَوْ ترى} يا محمد {إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} أي محبوسون في موقف الحساب، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين.
وجواب لو محذوف؛ أي لرأيت أمرًا هائلًا فظيعًا.
ثم ذكر أيّ شيء يرجع من القول بينهم فقال: {يَقُولُ الذين استضعفوا} في الدنيا من الكافرين {لِلَّذِينَ استكبروا} وهم القادة والرؤساء {لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي أغويتمونا وأضللتمونا.
واللغة الفصيحة {لَوْلاَ أَنْتُمْ} ومن العرب من يقول: لولاكم حكاها سيبويه؛ تكون {لَوْلا} تخفض المضمر ويرتفع المظهر بعدها بالابتداء ويحذف خبره.
ومحمد بن يزيد يقول: لا يجوز لولاكم لأن المضمر عقيب المظهر، فلما كان المظهر مرفوعًا بالإجماع وجب أن يكون المضمر أيضًا مرفوعًا.
{قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى} هو استفهام بمعنى الإنكار، أي ما رددناكم نحن عن الهدى، ولا أكرهناكم.
{بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} أي مشركين مصرين على الكفر.
{وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة، وقد مكر به يَمكُرُ فهو ماكر ومَكّار.
قال الأخفش: هو على تقدير: هذا مكر الليل والنهار.
قال النحاس: والمعنى والله أعلم بل مكركم في الليل والنهار، أي مسارّتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا.
وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار.
قتادة: بل مكركم بالليل والنهار صدّنا؛ فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما، وهو كقوله تعالى: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ} [نوح: 4] فأضاف الأجل إلى نفسه، ثم قال: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} [الأعراف: 34] إذ كان الأجل لهم.